ثقافةرأيسلايدرفنون

جسد ضئيل.. بين الخرافة والإبداع

قراءة فى أفلام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الدورة 43 (6)

كتب – جمال المراغى

يُقال إن هناك بحيرة قرب مدينة تيراسبول بمولدوفا تحدها الجبال من كل الجهات ويحتاج الوصول إليها السير لشهور ومواجهة الأهوال، وتتحطم أي طائرة تحاول المرور فوقها، ومن يشرب من مياهها لترًا يطول عمره عامًا، وتتجدد خلايا جسده بنفس القدر، أتصدق هذا؟!، هناك من يؤمن بذلك وبغيره من الأمور التي تبدو مستحيلة، وقد تتبعت المخرجة الإيطالية “لورا ساماني” واحد من تلك الدروب الغامضة التي يسلكها البعض سعيًا وراء المعجزة التي لا يقبلها المنطق ولكن يذهب معها الكثيرون بصرف النظر عن مستواهم  العلمي والاجتماعي من منطلق إيمانهم بالخالق الذي لا يعجز عن شيء في الأرض وفي السماء.

اختارت “أجاتا” الأم الثكلى التي وُلد طفلها ميتًا طريق اللاعودة  الذي قادتها إليه مشاعر الأمومة الجياشة وكل آمالها أن يكون لطفلتها اسم وأن يتم تعميدها قبل دفنها، ولم تتوان أن تضحي بحياتها من أجل بضعة ثواني تتنفس خلالها ابنتها، دفعها لذلك إيمانها بعدما استفتت قلبها فأفتاها ووجهها تجاه الموت؛ الحقيقة الوحيدة على الأرض، وأمامه تبدو كل شؤون الحياة بشهواتها ورغاباتها بلا قيمة، ولا تستحق حتى التفكير فيها، وأن الإنسان زائر سيرحل مهما طالت زيارته ولن يحمل شيئًا معه، لأنه لا يملك شيئًا، وإن عاش البعض يظن غير ذلك.

أصرت ساماني على تحدي نفسها واختبار قدراتها في أن تصارع الطبيعة الصعبة والجغرافيا الوعرة للأماكن التي اختارتها محلًا للأحداث ما بين التلال والكهوف، ونجحت مع مجموعة العمل المعاونة لها في إظهار أقصى جماليات المكان دون تكلف فعزز هذا من القيمة الدرامية مما يجعل المتلقي ينتبه ويتسلل إليه الشعور بأنه أمام حدث مهم، كما كان التصوير المبدع تحت الماء موحيًا في أهم مشاهد الفيلم حيث قررت الأم أن تضحي بنفسها وما تبقى من حياتها، وهي تدرك ذلك، من أجل ثواني تتنفس خلالها ابنتها ثم يرحلا معًا، وساعدها اختيار الزمان قبل نحو ١٢٠ عامًا، وفي هذا أيضًا هروب من حقيقة أن هذه الاعتقادات مازالت سائدة رغم ما شهدته المعمورة من تغيرات جمة.

قدمت مخرجة فيلم “جسد ضئيل” نموذجًا في اختيار العناصر التمثيلية التي تعبر عن رؤيتها ولم تعبأ بمعايير الخبرة، وكانت الصعوبة القصوى في أن الأحداث تعتمد بصفة رئيسية على عنصرين فقط؛ إن فشل أحدهما فلا يمكن للآخر إنقاذ الموقف، وبالطبع يكون الوضع أقل صعوبة إن كانت العناصر التمثيلية أكبر عددًا، من ناحية أخرى؛ فقد ساعدها ذلك الانحسار في التركيز على كل تفاصيلهما، ولم يشعر الجمهور أن “سيليست سيسكوتي” التي أدت دور “أجاتا” تخوض تجربتها التمثيلية الأولى، وساعدها في ذلك بعض الخبرة التي لدى “أوندينا قوادري” العنصر التمثيلي الثاني في دور اللص الذي تعاطف مع “أجاتا” وحقق لها غايتها وحمل الطفلة إلى المعبد، فلأوندينا مشاركات في أعمال روائية طويلة وقصيرة مشابهة فكريًا ووجدانيًا، نالت قدرًا كبيرًا من التقدير النقدي والجماهيري.

تماوجت ساماني في المساحات المتعرجة الصعبة التي تشبه تضاريس محل الأحداث، تلك المساحة الواصلة بين الإبداع والخرافة التي يراها البعض تكوينًا أصيلًا في تراث الحضارات المختلفة، وضربت بساعديها وساقيها بشجاعة وقوة رغم أنها تجربتها الروائية الطويلة الأولى، وبدت في نهاية الرحلة أنها ليست فقط ممن يعتقدون أن الأساطير والخرافات من التراث، بل تؤمن بأن وراء الخرافات حقائق، فقد تحققت المعجزة وعادت الطفلة للحياة للحظات حتى تعمد وتدفن، كما وجدت في الموت في سبيل ما تعتقد ذروة درجات الإيمان ويستحق أن تضحي بالحياة من أجله.

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى