سلايدرفنون

المكتشف الحقيقي.. أستاذ آثار يسرد كواليس اكتشاف مركب خوفو

كتب – محمود أنور

انطلقت مساء الجمعة، عملية نقل مركب الملك خوفو الأول من داخل المنطقة الأثرية بالهرم إلى بالمتحف المصري الكبير، باستخدام عربة ذكية تم استقدامها خصيصا من بلجيكا لنقل المركب قطعة واحدة بكامل هيئتها دون تفكيك، حيث تستغرق عملية نقل موكب الملك خوفو الأول ما يقرب من 10 ساعات وجاءت عملية النقل بسبب وجود المركب في مبنى قديم يفتقر أسلوب العرض المتحفي المميز كما أنه غير مجهز ونقلها للمتحف الكبير تقديرا لمكانة الأثر وللحفاظ عليه.

مركب خوفو

وفي هذا السياق نشر الدكتور ميسرة عبد الله حسين، أستاذ الآثار المصرية بجامعة القاهرة قصة اكتشاف مركب خوفو بمناسبة نقلها إلى المتحف المصري الكبير.

وقال “حسين” عبر تدوينة له: “اكتشاف مراكب الشمس.. القصة الحقيقية.. إهداء إلى روح المرحوم محمد زكي نور”.

وأضاف: “آمن المصريون القدماء بأن الروح محلها بعد الموت إلى السماء، وحيث كانت السماء زرقاء اللون فقد تصوروها بحرا زاخرا تبحر فيه أرواح الموتى وأرواح الآلهة كما تبحر فيه الكواكب والنجوم ولذلك فقد كان لزاما على كل متوفى أن يجهز نفسه بسفينة أو زورق يساعده فى إبحاره إلى العالم السماوى حيث مقر الآلهة وهو ما أكدته الآثار من العثور على النماذج الأثرية للزوراق منذ حضارة البدارى على الأقل فى مصر القديمة، وعلى الرغم من العثور على كثير من نماذج المراكب فى مقابر المصريين القدماء سواء تلك التى للأفراد أو لبعض الملوك والتى استخدموها فى رحلاتهم الدنيوية للمراكز المقدسة أو فى الاستعداد لرحتلهم الأخروية، إلا أن جميع هذه النماذج جاءت ضيئلة فى الحجم والصناعة ومتأخرة بعض الشيء حيث لم يعثر على مركب ملكية كاملة منذ عصر الدولة القديمة، وخلال الأربعينات من القرن الماضى كانت المنطقة المحيطة بالهرم الأكبر يغطيها الرديم والأتربة المتخلفة من عوامل التعرية وأعمال الحفائر المتواصلة فى المنطقة، حيث كانت كثافة الرمال عالية للغاية فى الأجزاء الجنوبية والشرقية من الهرم الأكبر وخلال عام 1944 قام الملك عبدالعزيز آل سعود بزيارة رسمية لمصر وكان ضمن برنامجها زيارة منطقة الأهرامات، حيث رافقه الملك فاروق خلالها وكان لابد من تهيئة مسار الزيارة الملكية بالمنطقة فشرعت مصلحة الآثار فى إزالة بعض الرديم لتسهيل الزيارة ووفرت الاعتمادات المالية اللازمة لذلك المشروع الضخم الذى استمر بعد ذلك حتى قيام ثورة 1952 حيث اهتم مجلس قيادة الثورة بدوره السياسى ووجه الدعوة لجلالة الملك سعود بن عبد العزيز كأول زعيم عربى يقوم بزيارة لمصر بعد الثورة وذلك فى عهد الرئيس محمد نجيب، حيث زار مصر فى زيارة رسمية فى عام 1954 وكان برنامج الزيارة يشمل مصنع الطائرات ومصانع الذخيرة وجامعة الدول العربية والقناطر الخيرية ومنطقة الأهرامات ولذلك كان لابد من الإسراع من أعمال التطوير بالمنطقة وإزالة الرديم باعتباره أكبر مشاريع مصلحة الآثار التى كانت تحت رئاسة أ.د. مصطفى عامر الأستاذ بجامعة فؤاد الأول فى ذلك الوقت”.

الرديم يغطي المنطقة المحيطة بالهرم الأكبر في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي

محمد زكي نور
وتابع “حسين” كواليس اكتشاف مركب خوفو موضحا: “كان يتولى الإشراف على المنطقة المرحوم الأستاذ محمد زكى نور أمين عام منطقة آثار الهرم، ومحمد زكى نور من مواليد القاهرة 1905 وحصل على دبلوم معهد الآثار المصرية من جامعة فؤاد الاول عام 1935 وعمل فى الفيوم و بنى سويف والأقصر حتى عام 1945 حيث نقل إلى منطقة الأهرام وأشرف على مشروع التطوير بها وخاصة إزالة الرديم بالقطاع الجنوبى من الهرم وذلك فى يناير 1954، وكان إلى الغرب من الهرم تقوم حفائر جامعة فؤاد الاول برئاسة أ.د. عبد المنعم أبو بكر فى الجبانة الغربية منه ولكن نظرا لقلة الاعتمادات وضيق الوقت فقد قام د. أبو بكر بتحويل اعتمادات حفائر جامعة فؤاد إلى أعمال تطوير المنطقة تحت إشراف محمد زكى نور حيث كان يعاونه المهندس صلاح عثمان والمهندس كمال الملاخ، وكمال الملاخ من مواليد أسيوط 1918 وحاصل على بكالوريا الفنون الجميلة قسم العمارة 1934 ثم دبلوم الآثار من جامعة فؤاد الأول كما كان مراسلا ومصورا صحفيا موفدا من جريدة الأخبار للعمل فى تغطية أخبار المشروع، كما كان كذلك مراسلا بالقطعة لجريدة “نيويورك تايمز” براتب عشرين جنيها، وكان رئيس العمال بالموقع الريس جريس ينى أحد الحفارين المتمرسين في أعمال الحفائر بالجيزة، وفى يوم 24 أبريل 1954 كشفت أعمال الحفائر عن ظهور حفرة ضخمة جنوب الهرم مغطاة بكتل ضخمة من الحجر فى نظام دقيق وعثر على اسم الملك “جدف رع” مكتوب على إحداها، وبينت طريقة رص الكتل أنها تخفى تحتها مركب لا تزال سليمة ولذلك كان العمل يستمر بحرص شديد كى لا تسقط أى كتلة على المركب فتهشمها، وكان المستهدف تحرير الكتل كلها من الرمال ثم فتحها بعد ذلك، حتى كان يوم 25 مايو 1954 وقبل رفع الكتل بيوم واحد حيث فوجئ محمد زكى نور بإصابة ابنته الصغيرة “وفاء” بأزمة قلبية إذ كانت تعانى من مرض القلب فأسرع لنقلها إلى المستشفى وظل معها طوال اليوم ولكن كانت إرداة الله أسبق، حيث توفيت تلك الفتاة الصغيرة إلى رحمة الله فى تلك الليلة، وبالطبع فلم يستطع محمد زكى نور أن يذهب لعمله فى اليوم التالى بسبب وفاة ابنته.

دراما يوم الاكتشاف
وحول يوم الاكتشاف الكبير أضاف: “هنا فى يوم 26 مايو 1954 كان الريس جريس يعمل وحيدا فى المنطقة وتمكن من إزالة الرديم كله وباقى فقط على فتح الحفرة ليروا ما بداخلها ولذلك أسرع للبحث عن كمال الملاخ ليبلغه بالخبر، حيث أنه كان فى إمكانه الحضور نظرا لظروف محمد زكى نور، وبالفعل عثر الريس جريس على كمال الملاخ جالسا فى مقهى “إكسليسيور” بشارع عماد الدين مع الكاتب أنيس منصور ولما أبلغه بالخبر أسرع الملاخ معه إلى الجيزة وشاهد السدادات مكانها مكشوفة فطلب كسر إحداها ليكشف عما تحتها، فقام العامل محمد عبد العال بكسر الكتلة رقم عشرين إلى نصفين حيث ظهر تحتها مجداف المركب الرئيسى واضحا داخل الحفرة، فأسرع الملاخ بإرسال برقية لجريدة “نيويورك تايمز” يبلغهم بالخبر قبل الإعلان الرسمى عنه، وقامت نيويورك تايمز بنشر الخبر بأن كمال الملاخ هو المكتشف وليس مرسل البرقية، وكانت الكارثة أن الجرائد الرسمية فى مصر الأهرام والأخبار قامت بنقل الخبر عن نيويورك تايمز وهو ما فوجئ به محمد زكى نور الذى كان حزينا على فقدان صبيته وعلى تعبه فى أعمال الحفر لشهور طويلة الذى ضاع سدى”.

ثورة غضب في مصلحة الآثار
بالطبع لم يمر الحدث مرور الكرام في الوسط الآثاري وعن هذا قال “حسين”: “أدى هذا الخبر إلى إحداث حالة من الثورة والغضب فى مصلحة الآثار وقام أ.د. عبد المنعم أبو بكر بالتقدم بالاستقالة من منصبه فى أعمال حفائر الجيزة احتجاجا على هذا الموقف، وأسرع مجلس قيادة الثورة لتدارك الموقف بعد أن انتشر الخبر عالميا فقامت مصلحة الآثار بإصدار كتاب تذكارى عن أهم الاكتشافات عام 1954 وكان أولها اكتشاف مراكب خوفو بقلم محمد زكى نور، وكان من المقرر أن يكمل زكى نور أعمال الكشف واستخراج المركب كاملة ولكن القدر لم يمهله إذ توفى بعد ذلك بأشهر قليلة وضاع حقه بين الكثيرين، وهذا إهداء لروح هذا الرجل الذى أعطى الكثير لمصر و تاريخها.
ولمن يرغب فى مراجعة أعمال الحفائر انظر:
Les grandes decouvertes archeologiques de 1954, le revue du Caire , v. 38 , Le Caire 1954″.

 

د. ميسرة عبد الله أستاذ الآثار المصرية

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى