منوعات
أخر الأخبار

ما لم يقله شامبليون!

كتب – محمود أنور:

في عام 1799 عثر بيير فرانسوا بوشار أحد ضباط الحملة الفرنسية، على حجر في مدينة رشيد مدون عليه كتابات لم يفهم مغزاها وقتها، وُضع الحجر في المجمع العلمي الذي أنشأته الحملة، وعند خروج الحملة من مصر أخذ الإنجليز الحجر، ثم وضعوه في المتحف البريطاني عام 1802 وقاموا بنسخ محتواه وأرسلوه للمهتمين حول العالم كي يتمكنوا من فك رموزه وجرت بالفعل محاولات لفهم المكتوب على الحجر إلى أن جاء الفرنسي شامبليون عام 1822 وتمكن من ذلك.
إنجاز كبير قدمه شامبليون وساهم به في عودة تاريخ مصر القديمة ليشرق من جديد ويعرف العالم عبقرية هذا البلد، ورغم ذلك فإن هناك واقعة فسر البعض صمته فيها على أنه تسبب في إذكاء صراع لسنوات تعلقت بالأبراج الفلكية الموجودة في معبدي إسنا ودندرة.

علم الفلك في مصر القديمة
من العلوم التي اشتغل عليها الإنسان في مصر القديمة علم الفلك ومراقبة النجوم ومسارات الكواكب، وله في هذا الشأن إنجازات عديدة، وبعد مئات القرون التي مرت على نهاية عصور الحضارة المصرية القديمة نجد أحد منجزات علم الفلك المصري محورا للصراع، ومع من؟ مع الكنيسة الكاثوليكية، وفسر البعض أن تقديرات شامبليون الأولية جاءت لتزيد من حدة هذا الصراع.
في كتابه “صفحات من علوم الفراعنة” الصادر عن هيئة قصور الثقافة ضمن سلسلة الثقافة العلمية تطرق الباحث عبد المنعم عبد العظيم، لتفاصيل هذا الصراع في معرض حديثه عن علم الفلك في مصر القديمة.

الأبراج الفلكية المصرية وعمر الإنسان على الأرض:
يهتم كثيرون بمسألة الأبراج الفلكية وتقسيماتها ومدى تأثيرها في حياة الإنسان، يقول عبد المنعم عبد العظيم في كتابه: “شكلت رسوم الأبراج الفلكية بمعبدي دندرة وإسنا ساحة صراع بين علم الفلك في مصر القديمة والكنيسة الكاثوليكية، حيث بدأ الصراع في نهايات القرن الثامن عشر ألف العالم الفرنسى “ديبوى” كتابا بعد دراسته لرسوم البروج الفلكية بالمعبدين استنتج فيه من علامات على هذه البروج أن قدماء المصريين هم أول من عرفوا علوم الفلك والبروج السماوية، وأن عمر هذه الأبراج يبلغ من 13 إلى 15 ألف سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام، بما يعني أن الحضارة المصرية عمرها أكثر من خمسة عشر ألف سنة قبل الميلاد، الأمر الذي مثل ثورة على المعتقدات الدينية السائدة حول تاريخ خلق العالم كما جاء في أسفار العهد القديم.
يضيف عبد العظيم: وبعد ذلك بسنوات قال علماء الحملة الفرنسية إن معبدي إسنا يرجعان إلى سبعة آلاف سنة ومعبد دندرة يرجع تاريخه إلى أربعة آلاف سنة، ونشرت هذا الأمر عام 1800 جريدة المونيتور التي كانت تصدرها الحملة من القاهرة وقالت الجريدة إن معابد إسنا ودندرة تعد من أحدث المعابد المصرية القديمة.

تسلسل الأجيال منذ خلق آدم
يوضح الباحث سبب الأزمة فيذكر أن في نسخ التوراة الثلاث العبرية والسامرية والسبعينية ذُكر تسلسل الأجيال منذ خلق الله آدم، بين آدم ونوح، ثم بين نوح وإبراهيم، ثم بين إبراهيم وعيسى عليهم جميعا السلام، واختلفت الأرقام في النسخ الثلاث ولكن أقصى مدة قدرت من خلق الإنسان على الأرض إلى رسالة عيسى عليه السلام كانت 5589 سنة، ولما كانت هذه النسخ هي النسخ المقدسة من التوراة اعتبرت الكنيسة أن هذه الأرقام قضية مسلم بها لا يجوز الاختلاف حولها وجعلتها من العقائد المقدسة.
تعارضت هذه الأرقام مع التاريخ المصري، وانقسم العلماء إلى فريقين: فريق يقول إن الآثار المصرية تثبت أن خلق الإنسان أقدم من الزمن الذي حددته التوراة منهم “ديبوي” و”بورخارت” وغيرهم، وفريق آخر تقوده الكنيسة الكاثوليكية ويتزعمه الأب “تيستا” سكرتير البابا في روما ويرى أن الأزمنة التوراتية نصوصا إلهية لا يجوز نقضها، واستمرت المعركة سجالا بين الفريقين.

قراءات شامبليون
يوضح عبد العظيم أنه عندما نجح شامبليون بعد ذلك في فك رموز حجر رشيد، أثبت أن جزءا من معبد دندرة بني في عهد كليوباترا والجزء الآخر بني في عهد ابنها قيصرون، أما معبدا إسنا فقد بنيا في عهد الإمبراطور كومود فأرجع بذلك تاريخ بناء معبدي دندرة وإسنا إلى العصرين البطلمي والروماني وبالتالي فالأبراج الفلكية حديثة، واعتقدت الكنيسة بذلك أنها انتصرت، وبدأت حملة عنيفة على مصر وتاريخها وحضارتها قادها الأب “جيرين دي روشي” الذي ألف كتابا عنوانه “التاريخ الصحيح للعصور الخرافية” وقال إن الملك مينا موحد القطرين هو نوح ومن خلفه من ملوك مصر هم أبناء نوح وأن المؤرخين مانيتون وديدور الصقلى وهيرودوت لم يفعلوا أكثر من أنهم وضعوا التوراة أمامهم ونقلوا عنها.

يشير الباحث أن شامبليون قام بعد ذلك بزيارة متاحف أوروبا الأخرى ودرس مجموعاتها الأثرية وبردياتها، وزار مصر وأدرك حقيقة افتراء رجال الكنيسة على التاريخ المصري لكنه لم يتحدث إلا في رسائل خاصة إلى أخيه عن الحقائق التي أثبتها بحثه.

علماء ينتصرون لعلوم المصريات

يضيف الباحث أنه بعد أن مات شامبليون عام 1832 اعتقدت الكنيسة أن الأسرار التي كشفها وأخفاها احتراما لعهد قطعه معها طويت بموته، ولكن عالم المصريات “دى روجي” خرج لينقض آراء الكنيسة حيث قال: “إن البعض يستخدم بعض كتابات المصريين القدماء من غير أن يفهموها وهم لذلك يظنون أنهم واجدون فيها قصصا من التوراة مشوهة تشويها مكشوفا فالنقد السليم قد قضى على هذه المؤلفات من هذا النوع، ثم أشار إلى الذين يرون بنية حسنة أن أرقام التوراة سورا لا يصح تخطيه إن مبادئنا لا تسمح بأن نتهم المسيحية بأنها تتزعزع أركانها من جراء تقدم علم أيا كان، ونحن على تمام اليقين من أن سلسلة التواريخ المصرية، مهما كان القدم الذي تنقلنا إليه ستأخذ مكانها في العلم الحديث غير أن يكون ذلك مسيئا للدين المسيحي”، ثم دوت صيحات أخرى مؤيدة له في إنجلترا وألمانيا وفرنسا.

الكنيسة تراجع حساباتها
يذكر عبد العظيم أن الكنيسة عادت إلى التوراة وتبين لها أن هناك خطأ في اعتبارها الأرقام التي فيها مقدسة وعددت أسبابا كثيرة تسببت في هذا الخطأ منها أن كل نسخة من نسخ التوراة الثلاث اختلفت فيها الأرقام عن الأخرى، في جملتها وتفصيلاتها، فهذا الاختلاف وحدة يمنع من أن تكون مقدسة، وأن التوراة حين تقول إن فلانا ولد فلانا لا يكون مرادها أن الثاني ولد للأول مباشرة من غير أن يكون بينهما جيل أو أجيال، بل المراد فقط أن الثاني نسل للأول، بحيث يكون ابنا أو حفيدا أو أبعد من حفيد، إذن يكون من الخطأ أن تجمع الأرقام التي في التوراة ليقال إن هذا هو الزمن الذي انقضى على خلق الإنسان.
هكذا خرجت الكنيسة من الصدام مع علوم المصريات، وبه أيضا أعلنت أنها كانت على خطأ في تحديدها السنين التي كانت تحددها لخلق الإنسان، وجاء العلم الحديث ليدلل على وجود الإنسان على الأرض قدرها البعض بعشرات الألوف من السنين.

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى