فى المقال السابق طرحت هذه الأسئلة: هل الصين وروسيا تسعيان للسيطرة على العملة الأمريكية «الاحتياطية» المسيطرة على العالم مستقبلًا؟.. هل الظروف مواتية لذلك؟ وإن كانت مواتية لذلك فهل هناك الإمكانية كبديل لها؟.. وهل- وهو الأهم- ستسمح أمريكا بذلك تاركة الحلبة لمنافسيه؟ وإذ كانت كل هذه الأسئلة مناط تنفيذ.. فما محل مصر منها وهذا ما يخصنا؟
ومن خلال ما تناولناه فى الجزء الأول من المقال السابق يتضح لنا أننا أمام صراع لن ينتهى إلا بـأولاً: حرب تُعاد بعدها ترتيب القوي العظمي وتوابعها، وإن كانت رائحتها تزكم أنوف العالم، إن لم نقل إنها موجودة بالفعل بين روسيا وأوكرانيا عن نفسها وعلي أرضها، وبالوكالة العتادية عن حلفائها «أمريكا ودول أوروبا»، وإما ثانيًا: بضعفٍ لأمريكا تنتهزه الصين وتنهى به سيطرتها كقطب أوحد لعشرات العقود، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية، وربما بشكل تظهر فيه التعددية بعض الشىء كما قلنا من ذي قبل.
أما في هذا المقال ونحن مازلنا في إجابات (هل)، واليوم هو جواب (هل) الروسية ومدى قدرتها وصمودها في هذا الصراع؟ نقول إنه على الرغم من التقارب بين الدب الروسي والتنين الصينى، كونهما مسمار جحا في جميع قرارات الفيتو، وامتطاء الصين للتنين الاقتصادي وفحيح ناره المسيطرة التى تحرق به الأسواق العالمية لتحتل أكثرها غير عابئة بغضب ينجم عن حرق أسعار كثير من السلع المقلدة أو الأصلية.. مع كل هذا الدب الروسي لن يترك التنين الصيني الحليف يصارع وحده الغطرسة النقدية الأمريكية فى غابة العملات الأجنبية الاحتياطية العالمية، ولكن سيزاحم أمريكا والصين ليضع قدمًا في سفينة السيطرة النقدية العالمية كقوة عظمى.
لذلك عقب تأزم الوضع الاقتصادي في البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي فى التسعينيات، واهتزاز الاستقرار في اقتصادها والتضخم الكبير لديها وهروب الاستثمار الأجنبي، أُرسل العديد من الجنود الشباب بالجيش للعمل بمجالات الفلاحة والصناعة بهدف إعادة الاقتصاد السوفيتي لما كان عليه قبل الحرب، كما لجأت الحكومة الروسية بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي إلى تحويل عملتها (الروبل) إلى عملة تسهل مبادلتها بالعملات الأجنبية في أسواق العالم المالية، ثم عملت على إنشاء نظام مصرفي حديث، حتي أصبح اقتصادها ضمن أعلي الاقتصادات الكبري، وتمتلك أحد أدنى الديون الخارجية بين الاقتصادات الكبرى.
ومن (تسعينيات الانفكاك السوفيتي) إلى (ألفينية الغزو والضم الكرمى) ارتفع اقتصادها بسبب هذا الغزو، ومن حينئذ أصبحت روسيا مرمى بصر أمريكا والغرب الأوروبى، إلا أن اقتصاد روسيا المختلط كان المناعة والحصن.. لمَ لا وتعتبر إحدى السلال الغذائية في العالم، ومن أكبر البلاد المنتجة والمصدرة للحبوب والغلال عالميًا.. كما تحتل مركزًا متقدمًا فى إنتاج النفط والغاز الطبيعي، وتتحكم فى نسبة تصدير نفط وغاز أمريكا وأوروبا، كما تعد ثاني أكبر دولة مصدرة للأسلحة بعد الولايات المتحدة، حتى أنها وإن كنت أستعجبه، كانت تصدر للأمريكتين الأسلحة بنسبة 4.2% حتي 2018 ومحركات الصواريخ العسكرية، ولا عجب فإنها المصالح والاضطرار، وتعد روسيا أكبر دولة منتجة للماس في العالم، حيث يقدر إنتاجها بأكثر من 33 مليون قيراط في عام 2013، أو 25٪ من الإنتاج العالمي، وغيرها من المقومات التي جعلت روسيا تتخذ هذه الخطوة.
هكذا اتخذت هذه الخطة عازمة على استعادة أمبراطوريتها ومجدها القديم، فقامت بتنفيذ باقي مخططها بأن غزت أوكرانيا مما كان سببًا في فرض عقوبات وإقامة حرب بالوكالة عليها.. أخذت روسيا حيالها عدة إجراءات لرفع قيمة الروبل الروسي.. منها: القيود على التحويل وإلزام المصدرين في روسيا ببيع 80% من عائدات النقد الأجنبي في بورصة موسكو، ما أدى إلى زيادة مستمرة في المعروض من العملات الأجنبية في السوق المحلية، وكذلك توجه السياحة الروسية إلى المزارات المحلية عوضًا عن السفر للخارج، ناهيك عن تصدير الطاقة الروسية للغرب بالروبل الروسي.. وتأثر الروبل بنمو أسعار النفط والغاز العالمية، إضافة إلى توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قرارًا يتعلق بوفاء الشركات الروسية بالتزاماتها تجاه الدائنين الأجانب بالروبل، والتعامل بالعملات المحلية فى التبادل التجاري مع بعض الدول.. فهل بعد ذلك كان الروبل الروسي قادرًا على الصمود.. بعد تسببه في تراجع اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، وانخفاض تداول وقيمة اليورو والدولار الأمريكى؟
رغم تقدم روسيا ووصولها لمكانة اقتصادية فى مقدمة الدول الاقتصادية إلا أنى أرى أن الصراع بين روسيا وأمريكا وغيرها على قيادة العالم نقديًا، يؤشر على أن الروبل الروسي أمامه وقت وتحديات ليست سهلة بالمرة لهذه المنافسة الشرسة على مستوى العملة العالمية.
وما زالت الإجابة عن (هل) في موقف مصر باقية.. فإجابتها فى قادم الأيام..
وللحديث بقية.