ثقافةرأيسلايدرفنون

قودي سيارتي..حين يحضر الضمير

قراءة في أفلام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الدورة 43 (5)

كتب – جمال المراغى

عندما يجد المرء نفسه في هوة كبيرة بين العشق والاختيار، ويتمكن من شغل هذه الفراغ ويجعل المساحة المشتركة بينهما كبيرة للغاية، ففي ذلك تميز، وعندما تكون حالات العشق والاختيارات مركبة، ففي هذا براعة، وللتحقق تضطر إلى زيادة مدة المشاهدة لتصبح ثلاث ساعات ولا يشعر الجمهور بالملل بل تغمرهم المتعة التي تنتهي بتصفيق حاد غير مصطنع، فنحن أمام إبهار استطاع أن يحققه  المخرج الياباني “ريوسوك هاماجوكي” في فيلمه الطويل “قودي سيارتي”.

وثق هاماجوكي في قدراته على أن يجعل الاختيار يعانق العشق، عشق المسرح واختيار قالب الفيلم السينمائي، وعشق النص المسرحي “الخال فانيا” لتشيكوف، واختيار قصة “قودي سيارتي” القصيرة لهاروكي موراكامي – المرشح الدائم لجائزة نوبل في الأدب – لتكون الخط الرئيسي لمعالجة فيلمه الدرامي، وساعده في ذلك مجموعة العمل التي استنشقت معه رحيق تشيكوف ولامست روح المسرح وجعلت من الشاشة خشبة تقترب من تحقيق تأثير الاحتكاك المباشر الذي يتفرد به المسرح.

ليس فقط “هيدتوشي نيشيجيما” الذي أدى دور الممثل والمخرج المسرحي الذي تفهم وغفر لزوجته الراحلة خياناتها المتعددة له أو هكذا أقنع نفسه، و الذي ساعد بخبرته الممثلة الشابة “توكو ميورا” التي أدت دور قائدة سيارته فذهبت تأخذ منه نقاط الدخول والخروج، وخاصة أن كل مشاهدها معه وهذا ذكاء منها، وإينما جميع الشخصيات الأخرى أيضا؛ بداية من الزوجة الخائنة “ريكا كيريشيما” التي شغلت مقدمة الفيلم الطويلة التي امتدت لنحو ٤٥ دقيقة، والشاب المبدع الذي خانت زوجها معه “ماساكي أوكادا”، والممثلة الخرساء “يو-ريم بارك” وزوجها “داي- يونج جين” وغيرهم ممن شكلوا مجموعة عمل المسرح الذين تم اختيارهم بعناية.

استخدم هاماجوكي قصة موراكامي كخط درامي رئيسي لفيلمه ووضع المسرح والخال فانيا في قلب الحدث وتعامل مع تفاصيلها بحساسية شديدة وخاصة الأجزاء التي أفصح عنها من النص المسرحي وطوعها لدعم خطه الدرامي، وجعل فكر موراكامي يتلاقى مع مشاعر الخال فانيا، ليكشف عن جانب خفي لم يتم التعامل معه من قبل بجدية، إذ كانت القراءات والمعالجات تتعامل مع فكر تشيكوف، لكنه ذهب لما هو أروع وهو الطاقات الوجدانية الكامنة في أعماله، والتي ربما تكون محل دراسات مستقبلية بفضل هذه المعالجة المتفردة وغير المسبوقة.

التقى الغريبان وارتبط وجدانيهما منذ الوهلة الأولى بفضل الطاقة التي يلعبها الوجدان وتسيطر على مشاعر الفرد، وهو ما لم يستوعبه المخرج ومن تقود سيارته في البداية حتى تبين أن هناك ما هو مشترك بينهما وهو ألم مصدره طعنات من أقرب البشر إليهما؛ الزوجة الخائنة والأم الغليظة، كما جمعهما الضمير الحاضر الذي جعل كل منهما يتألم أكثر لشعوره بالذنب ظنا منهما أنهما تسببا في موت معذبيهما، ولكنهما كانا محظوظين فكان لقاءهما هو بداية شفاءهما، وحضر الحب الخالص أيضًا الذي جعل أثر هذا اللقاء أكبر كثيرًا من جلسات العلاج النفسي المشترك التي في أحيان كثيرة لا تؤتي ثمارها، بل تحدث آثارًا عكسية أحيانًا، كما عرجت هذه الدراما إلى حقيقة أن المشاعر لا تحتاج لنطق وكذلك الموهبة، فالخرساء أحبت ووجدت من يحبها ويتعلم لغتها، ونجحت بأدائها في الوصول للجمهور.

جاءت رسالة  هاماجوكي محرجة للكثيرين ممن يظنون أن صناعة الفيلم هي مجرد حركة كاميرا بسرعة أكبر مما يمكن أن يدركه المشاهد وخداع بصره لإبهاره حتى يفتح فاه ويحملق في الشاشة دون أن يستوعب ما يحدث وما لا تراه عيناه، ثم يصفق تحت التأثير المؤقت لهذا الخداع، بدون أن يترك أثرًا في فكره أو وجدانه، بينما قدم هذا الياباني – ابن البلد الذي يساهم يوميًا في زيادة سرعة إيقاع الحياة على الأرض – فيلمًا بوتيرة بطيئة لكنه نموذجًا للبناء الدرامي الذي يخاطب العقل والوجدان، والتوازن بين مساحات الصمت والنطق، وتبادل التأثير بين الشخوص والمكان، وأنه حان الوقت لعمل مراجعة عكسية من أجل استعادة السينما الحقيقية التي تكاد تخفيها ضبابية السرعة والخداع البصري.

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى