ثقافةرأيسلايدرفنون

الملك ريتشارد.. الحاجة تهزم الترفيه

قراءة في أفلام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الدورة 43 (3)

كتب – جمال المراغى

أهي الخطة المحكمة التي تقودك للنجاح وتحقيق ما يعتبره البعض معجزة؟ أم الإرادة التي تمكن المرء من الغاية أيا كان السبيل الذي اختاره؟ أم أنه القدر الذي يذهب به إلى حيث يشاء؟، ربما هي شيء من كل هذا وغيره، ولكن وفي كل الأحوال، هناك من حلم وسعى نحو تحقيق ذلك الحلم، ويحسب له ذلك، ولا خلاف عليه، وإنما يظل التساؤل المحير هو؛ هل يحق لأم أو أب أن يحاول تحقيق حلمه الضائع بجسد وروح ابنه أو ابنته ويجند حياته أو حياتها من أجل ذلك، مثلما فعل “الملك ريتشارد”؟

ربما يحق للأب أو الأم ذلك إن قبل الأبناء وأصبح حلم الآباء حلمهم، وهذا هو اعتقادي وليس ردًا على التساؤل الذي مازالت تتقاذفه الأمواج ولم يجد برًا بعد، وهذا الاعتقاد يستند على واقع وتجارب غرس فيها الآباء أحلامهم المفقودة أو المستعصية في الأبناء والذين بدورهم قبلوا أن يخوضوا معها تحديهم الخاص ويحققوا نجاحات تفوق الوصف، وهذا ما آمن به “ريتشارد ويليامز”، واستطاع أن يجمع أفراد أسرته عليه ويجعلهم شركاء فيه، وكاد يظن البعض أن لعبة التنس هي الغاية ولكنها في حقيقة الأمر وسيلة لتحقيق حاجة أكبر وهي تحقيق الذات وتقديرها لأسود يدفع عن نفسه وعشيرته احتقار الأبيض له ولهذا اختار للتحدي لعبة احتكرها البيض وحاول اكتساب احترام العالم له بتفوقه فيها.

لم يكتفِ صاحب الحلم بالاحترام ولكن الأفريقي القابع داخله أراد أن يتفوق على الجميع ويصنع معجزة بشرية، وفي سبيل ذلك توحد مع المرأة الأفريقية المخلصة لدى زوجته وكان طبيعيًا وبشيء من الجهد أن يحمل بناتهم الخمسة هذا الإرث الأفريقي ودورهم في الدفاع عنه وتعظيم دوره في هذه الأرض الجديدة متمسكين بالهوية الأفريقية التي تسبق الأمريكية المكتسبة، تلك الهوية التي أقسم “أليكس هيل” في رائعته “الجذور” الصادرة عام ١٩٧٦ على خلودها أبد الدهر، ليس فقط لطبيعة تمسكهم بالأرض التي وُلد بها أجدادهم وخُطفوا منها، ولكن لأنه أدرك أن البيض الذين حملوهم قسرًا إلى هذه الارض الجديدة لن يقبلوا بهذه الكائنات السوداء شركاء لهم فيها، ولهذا فرغم مطالبة الأب من ابنتيه فينوس وسيرينا بأن يستمتعوا بلعبة التنس لرفع الضغوط عن كاهلهما ولكن روح التحدي داخلهم وحاجتهم الكبيرة للتفوق التي تشغل عقليهما ووجدانيهما تغلبت على دوافع الترفيه لديهما ولدى منافسينهما، حيث كان حافز أبيهم بل وسلاحه لمواجهة تمردهما النادر هو استعادة هذا الإرث الذي عاشه الأب والأجداد وهو ليس ببعيد ومازال يمارس بوتيرة وصور مختلفة، ومنحتهما الهوية الأفريقية الإيمان الشديد بالخالق والدين والثقة في النفس والنجاح.

تمكن صناع الفيلم؛ مؤلفه “زاك بايلين” ومخرجه “ريونالد ماركوس جرين” في نقل حماسهم الكبير للمؤدين وساعدهم بطل العمل “ويل سميث” الذي ذهب مع هذا الفيلم لمنطقة مختلفة من الأداء التمثيلي ليس فقط في المرحلة العمرية ولكن في خوض تحدي كبير بتجسيد شخصية معروفة وإظهار جوانب خفية عنه ولكنها تتوافق مع شخصيته وسلوكه، وأعتقد أن سميث بذكاءه سيستثمر في أداءه لهذا الدور بنجاح مستقبلًا، ولم يكن اختياره وحده موفقًا، ولكن اختيار بقية العناصر التي كانت تشبه الشخصيات الحقيقة ليس شكلًا وحسب وإنما روحًا وخاصة “أونجانو إيلز” في دور الأم، وهذا ما يتسلل لوجدان المتفرجين  بعد دقائق من بداية حركة الشريط في آلة العرض، ولعل هذا ما جعل التأثير يتجاوز المأمول بأن يحمل كل أفريقي في الولايات المتحدة التحديات التي تواجهها أسرة ويليامز، وأن يقبل بها كل أبناء القارة السمراء على كاهلهم وربما كل إنسان خارج الولايات المتحدة.

مع انتهاء أحداث هذا الفيلم حضرني من اللاوعي عندي فيلم “ناصر ٥٦” والتناول الذكي للكاتب الراحل “محفوظ عبد الرحمن” الذي اختار نقطة وجدها جوهرية في حياة الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر” وهي تأميم قناه السويس ولم يحاول تكثيف حياته الثرية بسطحية في مدة الفيلم القصيرة ايًا كان طوله، وركز على تفاصيل تكشف للجمهور لأول مرة، وهذا بالضبط ما ذهب إليه مؤلف الفيلم فاختار نقطة اعتبرها الأهم والمفصلية في حياة الأختين ويليامز والشخوص اللاتي لعبت دورًا مؤثرًا فيها وخاصة الأب ثم الأم والمدربين وكذلك أخواتهما، إنها بداية الرحلة وأهم مراحلها التي لا يعرف عنها الكثيرون شيئًا، وحكمة الأب الذي دفع  أولًا بابنته التي تحتاج لدعم أكبر وهي فينوس معتقدًا أنها إذا تفوقت وأصبحت رقم واحد في اللعبة فإن ابنته سيرينا الخفية صاحبة الإرادة القوية ستكون المعجزة التي يحلم بها وقد كان.

اعتدت أن أتابع مباريات التنس العالمية عن كثب وخاصة بطولات الجراند سلام سيدات ورجال قبل ظهور الأختين ويليامز، وكان اقتحامهما للعبة بالنسبة لي كالكابوس، وبالأخص سيرينا، وكنت أرى أنها قتلت متعة اللعبة بالقوة والسرعة المفرطة التي لا تتناسب مع التنس النسائي، إلا أن الملك ريتشارد أخذنا لرؤية أخرى أكثر عمقًا، فهناك ما هو أهم من الاستمتاع باللعبة وهو تحريرها من الأسر، حتى وإن احتكرت السيدة ويليامز الصغرى عدد كبير من بطولاتها الكبرى لبعض الوقت ولكنها حفزت غيرها ليس من السود فحسب ولكن ممن يصنف كبشر من طبقات دنيا تبعًا لجذورهم الأصلية، وهذا ما جعل الكثيرين لا يجدون غضاضة في سيطرة سيرينا وابتعاد عددًا من نجمات اللعبة عنها هربًا منها، بل ذهبوا يفخرون بالأختين ويليامز كفخرهم بمايكل جوردون، محمد على كلاي، بيليه، محمد صلاح وغيرهم في أمريكا وخارجها، كما يستحق الملك ريتشارد الفخر به.

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى