ثقافةرأيسلايدر

كيارا.. هيستريا الواقع

قراءة في أفلام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الدورة 43 (2)

كتب – جمال المراغى

تتحرك بلا هوادة، تحركها روحها البريئة التي لم تدنس بعد، يدفعها لذلك خوفها الغريزي – الذي خلقت به – خشية أن تجرح، تلك هي روح المراهق – أو ما يجب أن تكون عليه – التي تتبعها المخرج “جوناس كاربينيانو” بعدسته يراقبها تارة ويحاول أن يرى ما تراه بعينيها تارة اخرى، يحاول عاجزًا أن يدافع عنها قبل أن تسقط في براثن الحياة وملوثاتها، وأن يمنحها حقها في عيشة نقية تحقق لها ما يستحقه كل إنسان من أمان واستقرار وسعادة.

تحدى كاربينيانو نفسه وقام بعمل فريد وجنوني بالنسبة لأي مخرج وليس لمن يقدم على تقديم عمله الثالث؛ حيث اختار أن يطوع بناء وجداني كامل طبيعي يعينه على تحقيق التأثير الذي يبغيه وتحمل عبء ما يزيد على ١٥ فرد هم قوام أسرة واحدة أو قل عائلة واحدة هي عائلة “روتولو” وأنسابهم وبعض أصدقائهم ومنهم اختار شخوصه  الرئيسية، غير  أسماء البعض منهم مثل ستومي التي باتت كيارا وأختها الكبرى جريسيا التي أصبحت جوليا بينما احتفظ الآخرون بأسماءهم الحقيقية مثل الأب كلاوديو والأم كارميلا والابنة الصغرى جورجينا وابن العم أنتونيو مما ساهم في إبراز الألفة والدفء الأسري الذي يحتاجه كل إنسان ويتوق إليه.

جذبته المراهقة كيارا ذات الخمسة عشر ربيعًا التي تمثل الحالة الحرجة بين الطفلة التي لم تبلغ الخطر القانوني بعد أو ذات الثمانية عشر عامًا التي تجاوزت ذلك الخطر ويراها المجتمع العالمي ناضجة!، إن كيارا هي الحلقة الأضعف التي قررت  السلطات أن تقتص منها لتورط والدها مع عصابات المافيا، اعترافًا من السلطات بعجزها لأسباب عديدة؛ وتمثل القصاص في فصلها تعسفيًا عن أسرتها ودسها في أسرة أخرى، هذا الحل الأسهل بالنسبة للسلطات هو في حقيقة الأمر قاتل مجتمعيًا، يؤذى الجميع بما في ذلك المراهقة وأفراد الأسرة التي ستتبناها.

لا شك أن الأب مجرم حتى وإن حاول تبرير ذلك بواقع حقيقي يتمثل في أنه مجرد ترس صغير للغاية في ماكينة عملاقة وأن زعيم أو مالك الماكينة جزء من السلطة والنظام العام، وأن التنكيل به لم يحدث لكونه متورط مع العصابات، ولكن لأنه تفوق على أقرانه المتنافسين معه من العصابات الأخرى، وأن ما يقوم به ما هو إلا وسيلة للبقاء في ظل ضغوط الحياة المتزايدة وقلة فرص العمل، ويزداد الأمر سوءا عندما يعلن المسؤول الأول عن التعليم في البلاد أن العلم لا قيمة له.

بفطرتها لم تقبل المراهقة  كل هذه التبريرات رغم صدقها وقررت أن تبتعد جسدًا عن أسرتها التي تحبها، ولا يعد هذا انتصارًا لقانون الفصل التعسفي الجائر المبني على رؤية غير صحيحة عمليًا، فهناك رجال متورطون مع العصابات ولكنهم آباء ناجحين في مقابل بعض أصحاب المكانة المرموقة في المجتمع الذين فشلوا تمام في قيامهم بهذا الدور الحيوي في حياة الأطفال والمراهقين، وينعكس الأمر أيضًا على الأسر عامة، وخاصة أن الطبقات المتوسطة، عصب أي مجتمع والأكثر تحضرًا ووعيًا، باتت متورطة مع هذه العصابات وفقدت مقاومتها التي كانت المقوم للمجتمع.

استخدم  كاربينيانو الأسلوب  الروائي المنقوص في سرده حيث بدأ بمقدمة طويلة نسبيًا، لا غنى عنها، أبرز فيها بواقعية الدفء الأسري الذي تعيشه كيارا بين والديها وأختيها بدون أن يظهر تأثير لتورطه في أعمال غير قانونية، ثم اتبع ذلك بأحداث تظهر هذا التورط وسعي المراهقة لاكتشاف الحقيقة، ومحاولة مؤسسة الرعاية الحكومية فصلها عن أسرتها تعسفيًا، ووصولًا لاختيارها أن تبتعد لبعض الوقت عن أسرتها عقب تيقنها من حقيقة تورط والدها، ليتوقف بدون أن تنتهي الاحداث لأن الحياة ستستمر وربما تعود الفتاة بعد فترة لتقويم أسرتها وانقاذ اختها الصغرى، وكان الربط الصوتي مميزًا إبداعيًا بين هرولة كيارا المراهقة على آلة العدو، وحركة ماكينة خلط المخدرات، في حين باتت كيارا الأكثر نضجًا تجري في المسار الصحيح نحو غاية أصبحت تدركها جيدًا وتؤمن أن فيها الخلاص.

 

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى